«لا تتجنب الكليشيهات، لأنها رغم تكرارها المبتذل… حقيقية!»
- جورج لوكاس
يعرف قاموس «أكسفورد» كلمة «Cliché» بأنها الفكرة التي ابتذلت لفرط تكرارها حد أنها فرغت من أي تأثير يمكن أن تمتلكه.
أي متابع جيد للسينما يمتلك رهافة في التقاط الكليشيهات أو الثيمات التي ابتذلها التكرار، مثل أفلام الرعب التي تبدأ بمجموعة أصدقاء يذهبون لقضاء العطلة في كوخ منعزل أو أفلام المافيا التي تبدأ بأسرة إجرامية تتحطم من داخلها على غرار آل كورليوني.
رغم نمطية تلك الأفلام فإن البعض يركن لها سواء صناع السينما أو المتلقين لأنها تقدم جرعة مضمونة من الوعود، لا مخاطرة معها بالفشل. من هنا يكتسب «الكليشيه» سمتين متناقضين، الملل لفرط تكراره والحضور المستمر رغم ذلك لأنه وصفة آمنة في صناعة متقلبة.
يحضر «The Holdovers» مرتدياً أقنعة كليشيه ثقيلة، يصعب معها انتظار أصالة متفردة تخصه، يدور الفيلم في نهاية عام 1970، في مدرسة داخلية مرموقة بولاية «ماساشوستس»، حيث يستعد الجميع لعطلة أعياد الميلاد، ولكن يتبقى طالب وحيد من زمرة الطلبة الذين تعذر على أهلهم استقبالهم، يصبح عالقاً في شتاء حزين لمدرسة مهجورة برفقة المعلم المتزمت «بول هونهام» والطباخة السوداء «ماري» التي ترتدي ثوب الحداد لفقدانها ولدها في «فيتنام». ويتسيد مثلث الشخصيات السرد حتى النهاية.
مشهد من فيلم «The Holdovers»
تحضر في الذهن عند استقبال تلك الحبكة، أفلام كثيرة تنسج ببراعة فخ «الكليشيه»، يشبه المعلم «بول» شخصية The Grinch، المخلوق الذي يكره بهجة أعياد الميلاد بينما هو مستوعب بالكامل في مرارته الذاتية مع مسحة ديكنزية لقصة Christmas Carol التي تدور حول عجوز نكد سيقابل أشباحه ليعيد وصال ذاته القديمة بينما تذيب بهجة أعياد الميلاد برودة قلبه.
يمكن بالنظر لأجواء المدرسة الانضباطية المخيفة والطلبة الذين يعانون القمع والرغبة في التمرد بشتى الطرق أن نستعيد أفلاماً مثل «Dead Poets Society» و«Scent Of Woman». تحضر تلك الأفلام مثل مصفوفة تجعلنا ندرك جيداً ما سيحدث.
لا يفسد هذا التوقع الرتيب إلا مخرج الفيلم Alexander Payne الذي حقق شهرته بأفلام مثل «Nebraska» و«Sideways»، وصنع لنفسه بصمة خاصة في تقديم شخصياته يصعب أن تروض أصالتها لصالح تيمة مكررة.
بعد برهة من المشاهدة يذوب جليد أعياد الميلاد حول حبكة الفيلم، ليكشف عن أصالة تمرر ذاتها بخفة عبر أقنعة الكليشيه المعتادة، حبكة تستعير مفرداتها من أفلام سابقة، لكنها تعيد تدويرها لتقدم حكايتها بشكل أكثر رقة، قد لا تجد في «The Holdovers» معجزة الكريسماس ووعود النهاية السعيدة التي تحملها أفلام أعياد الميلاد، لكنك ستجد ما هو أكثر فرادة بكثير.
«لا أرى أمامي سوى انسان لا يجرؤ حتى على أن يمتلك حلماً مكتملاً»
- The Holdovers
يقول المخرج Alexander Payne أنه لولا متطلبات الاستوديوهات الهوليوودية لاختار الممثل الأمريكي بول جياماتي بطلاً لكل أفلامه، لكنه في نظر الأستوديوهات رجلاً بملامح شديدة العادية، يصعب أن تموضعه في دور البطولة، رجل يمكن أن تغفله العين بسهولة وتسقطه من حسابات الملاحظة والتقدير.
تلك المواصفات بعينها ما جعله البطل المثالي لتلك الحكاية التي تدور حول بول هونهايم، معلم في خريف العمر، يقوم بتدريس مادة تاريخية حول حروب أثينا القديمة، رجل شديد العادية لا يميزه شيء، سوى حول خفيف في عينيه لا تدري معه ما هي الزاوية المثالية للنظر له لتتأكد أنه يراك؟
في ثلث الفيلم الأول لا يمنحنا بول أي زاوية مثالية للنفاذ إلى أعماقه، فهو يتلذذ بتأديب الطلبة المدللين الذين يختبئون بطفولة وراء امتيازات عائلاتهم المالية، الامتيازات التي حاربها بول بقوة حد إصراره على رسوب طالب تبرعت عائلته بثروة للمدرسة وهو ما أدى إلى معاقبته من الإدارة بأن يكون المعلم المسئول عن الطلبة العالقين في الكريسماس.
يقدم المخرج باقي شخصيات المثلث بالخطة ذاتها، في بداية الفيلم تختبئ كل شخصية خلف دورها المتوقع في اليوم الدراسي، يبدو هونهايم معلماً مرعباً في قاعة التدريس، بينما ماري طباخة متمرسة في مطبخ عملاق يخضع لنظامها رغم وحدتها بداخله، والطالب أنغوس الذكي الذي يجيد مواجهة معلمه ومتنمريه بثقة زائفة داخل حرم السكن.
مشهد في فيلم «The Holdovers»
عندما تنتهي السنة الدراسية التي تؤطر كل شخصية في دورها ومساحتها المكانية وتمنحها سلطتها، تفقد الشخصيات حصونها الشعورية والصيغة الآمنة التي تقدم عبرها ذاتها للعالم.
بينما يتسيد المعلم بول الكادر في قاعة التدريس ممثلاً سلطة أخلاقية طاغية، عندما تأتي العطلة نذهب بالكاميرا إلى فراشه، إلى مساحاته الخاصة التي ظهر في أول كادر بالفيلم وهو حريص على إخفائها أمام الجارة التي تأتي له بحلوى عيد الميلاد، لنجده يتقزم عن هالته القديمة وهو يعاقر الكحول ويضرط ببلادة أملاً في نوم بلا أحلام.
عندما تسأله الطباخة ماري في محادثة ودية -لم يكن اليوم الدراسي ليخلق مساحة لها- عن أحلامه، يتحدث عن رغبته بالسفر للمدن التي دارت فيها حروبه التاريخية التي يقوم بتدريسها، وأمله في كتابة مونوغراف صغير عن مدينة قرطاجة تحديداً.
تتعجب محدثته لأن أحلامه بلا عوائق، ومع ذلك كسى الشيب رأسه ولم يحققها بعد، يخبرها أنه راهب محب للوحدة، مسخراً حياته لأهدافه التعليمية، تسخر ماري من اختباء المعلم الطفولي وراء ديباجاته الأدبية لتخبره أنه لا يجرؤ حتى في أمنياته على الحلم بشكل كامل، يختار مدن قرأ عنها بدلاً من المخاطرة بأماكن لا يعرفها، ويروض كتاباته في صورة مونوجراف أو كتيب صغير بدلاً من كتاب كامل عن مدينة سخر حياته لدراستها.
في الليل تفقد ماري هالتها القوية المتماسكة التي ظهرت بها في الكنيسة وهي تنعى ولدها أو في مطبخ المدرسة وهي تقوم بمهامها بكفاءة صامتة، تعاقر الخمر وهي تتابع برنامج تلفاز مصطنع لبيض البشرة، حول أزواج يعرفون بعضهم جيداً من إجاباتهم، وعالم أمريكي سعيد يخلو من ذكر الحرب الوطنية التي ابتلعت طفلها دون رحمة.
يتخلى أنكوس عن ثقته الزائفة بنفسه عندما تخبره أمه عبر الهاتف أنها حولت العطلة لشهر عسل لها مع زوجها، يتحول إلى طفل صغير تم التخلي عنه، يبكي ويضم قبضته معترضاً ثم ثائراً ثم مستسلماً في النهاية. لتستعمر ملامحه إمارات الاكتئاب.
ما يميز بداية «Holdovers» أن كل شخصياته لا يمكن أن تلتقطها العين العادية بعناية إلا لو تدثرت بأدوارها المهنية أو بما تضفيه عليها المؤسسة من أهمية، يظهر المعلم بول خارج سلطته التعليمية، وأنكوس خارج شعوره الطفولي بالاستحقاق كطفل مدلل في مدرسة مرموقة وسط أقران أقل منه ذكاء وحظاً، وماري خارج سلطتها على مطبخها وهالتها المؤمنة كمسيحية مطيعة لقدر الرب.
شخصيات عارية من أدوارها، متروكة كلياً وساقطة من حسابات العالم في الوقت الوحيد من العام الذي يستعصى فيه أن تترك وحيداً.
لقطة من فيلم «The Holdovers»
ينسلخ ألكسندر باين بعناية من كليشيه أفلام الكريسماس، كساحة للعراك الأسري أو تمرد المراهقين أو مقابلة أحباء الماضي، ويستعير مقلوب روحها لتكون الوحدة هي بطلة السرد، لا يكتفي هنا الأبطال بمواجهة أشباحهم القديمة على طريقة ديكنز أو أحلامهم التي خانوها دون أن نعرف الأسباب، إنما يجعلهم المخرج عرايا بعوارهم وضعفهم أمام مرايا معاكسة، فالمعلم سوف يتعرى بحقيقته أمام تلميذه المدلل، والتلميذ سينفتح على جروحه القديمة أمام معلم يشتهر ببروده الشعوري، وماري ستقضي عطلتها رفقة رجلين بيض البشرة لا يعرفون شيئاً عن مجتمعها وتضحياته.
يجيد ألكسندر باين خلال تقديمه لشخصياته المخبأة خلف هالتها وسلطاتها المعنوية أن يمرر عبر شروخ أقنعتها روحاً تشي بتركيب وتعقيد يخالف ما تدعيه تلك الشخصيات عن نفسها.
بينما يبدو أنكوس في البداية طالباً نزقاً مخادعاً وقاسياً، يهاجم زميله ويصفه بأنه منبوذ من والديه اللذين ادعيا تجديد المنزل في الكريسماس لكيلا يعود لهما، نجده في الليل يواسي طالباً صغير السن تبول في فراشه بعد كابوس مخيف، يبكي الطالب ويتحدث عن وحدته بلا أصدقاء في مدرسة تخيفه، يخبره أنكوس أنه سيتولى إخفاء ملاءاته المتسخة وينصحه أن يخفي ضعفه بعناية ولا يخبر أحداً عما حدث لكيلا يكون ضحية لتنمر أبدي.
تعكس تصرفات أنكوس نقيض ما يقدمه عن نفسه، تعكس ماضي طفل منبوذ من والديه، طفل يجيد الاعتناء بنفسه في أوقات الكوابيس الليلية، يجيد إخفاء ضعفه، ويجيد مواساة من يشبهه في الخفاء، قبل أن يستيقظ صباحاً ويقوم بإسقاط مخاوفه كطفل منبوذ على زملائه.
بينما يتدثر المعلم بول في كل مخاطباته وحركاته بتقاليد مدرسة بارتون وروح أبطال أثينا الذين يتحملون المصاعب برواقية دون شكوى أو انفعال، يفقد أعصابه سريعاً وهو يؤدب طالبه الذي سخر من معاناة ماري وفقدها ولدها، ينهره بول محولاً الأم من عاملة مجهولة لا قيمة لها إلى امرأة يجب احترام معاناتها.
الممثل الأمريكي بول جياماتي من فيلم The Holdovers
يدافع بول عن مجهولية يعاني منها بداخله، ورغم تسيده الكادرات الأولية كرمز لسلطة المدرسة إلا أنه يخفي بعناية قلق رجل يعاني في حضوره وأحلامه من تقزم مروع لا تخفيه إلا سلطة المعلم. رجل يعرف جيداً ما يعنيه أن يحيا أحدهم معاناته في مجهولية صامتة.
عندما يتمرد أنكوس وينخلع ذراعه خلال ركضه، تنحسر سلطة المعلم ويتحول بول إلى رجل مذعور من فقدان وظيفته، ومعها السلطة الوحيدة التي تحميه من التعري بمجهوليته، بينما لا يرى أنكوس في ذعره سوى امتداد أناني لوالديه وكل الكبار الذين يفكرون بأنفسهم بدلاً أن يفكروا في معاناته. رغم ذلك يقوم بالكذب لإخفاء مسئولية معلمه وحمايته من المساءلة.
يقوض الألم الجسدي قدرة أنكوس على التمرد من جديد، ويقوض معروفه الشخصي قدرة بول على إخضاعه لسلطته ولا يتبقى للبطلان إلا الانفتاح على بعضهما.
يطرح ألكسندر باين مجازاً جسدياً جمالياً لعقدة البطل، عندما يصارح أنكوس معلمه في السيارة بأن جسده يحمل رائحة سمك عفن لا تطاق، يطرق بول برأسه خجلاً ليخبره أنها متلازمة طبية لأن جسده لا يستطيع تفكيك مركب كيميائي يدعى ثلاثي «الميثيلامين».
ندرك في ما بعد أن مرض بول أو عجز جسده عن تفكيك عقدة مركبة بعينه مما يؤدي لتحلله برائحة مروعة، يقابلها عجز نفسي عن تفكيكه لعقدة تتعلق بحكايته القديمة.
عندما يقوم البطلان بعقد هدنة برعاية ماري قوامها رحلة لقضاء عيد الميلاد في بوسطن بدلاً من المدرسة المهجورة وجليدها الكئيب، يقابل بول مصادفة أحد زملائه من جامعة هارفارد، يلاحظ أنكوس ارتباك معلمه فيتولى الكذب من جديد ويدعي أن معلمه هو عمه وأنه يقوم بتأليف كتاب ملحمي عن التصوير، وسوف ينتهي منه بعد أسفاره، يقوم أنكوس بتضفير أحلام بول التي لم تتحقق أبداً في صورة سيرة خيالية تحمي هالة المعلم أمام صديق من الماضي يستنطق حاضره ويحاكمه بالتلميح.
بول جياماتي من فيلم The Holdovers
يتحدث «بول» في حضرة اعترافية لم يتخيل أن يقوم بها أبداً في حضرة تلميذ مدلل، عن ماضيه في هارفارد عندما سرق منه زميله أطروحته ولم يكتف بذلك إنما ادعى بأنه مالكها الأصلي و«بول» من سرقها، محتمياً بنفوذ أسرته الثرية لينتهي الأمر ببول مطروداً من الجامعة بعد أن كاد يدهس بسيارته زميله المدلل.
مثلما يعجز جسد بول عن تفكيك مركب كيميائي بسيط أفرز نفسه في صورة رائحة كريهة جعلته عازفاً عن الزواج والقرب من الآخرين والحميمية، عجزت ذاته عن تفكيك قصة قديمة أو الخروج منها، تحول بول إلى تنويع أكثر سوداوية من شخصية «The Grinch»، كيان مستوعب بالكامل في مرارته الذاتية، يحقد بقوة على التلاميذ الأغنياء لشعورهم الدائم بالاستحقاق، يخلق مناهج دراسية صعبة تسقط بكفاءة المتكاسلين ويقف بالمرصاد لكل طالب يحاول استغلال نفوذه للإفلات من الاختبارات.
تؤسس شخصية المعلم وسلطويته التي أفرد لها المخرج النصف الأول من الفيلم، لا على قناعة أخلاقية أو مثالية متعالية، إنما على مرارة قديمة لم يُعد تدويرها أبداً، ومثلما يفرز جسد بول رائحة كريهة يحتمي منها برفض الحميمية، تفرز قصته القديمة قلق دائم من الانكشاف يحتمي منه بسلطة أخلاقية مبالغ في مثالياتها. وحنين إلى عوالم أثينا التي كان ممكناً في محاكمها أن يستعيد أطروحته ويبارز زميله بشرف حتى ينتصر.
خلال رحلة بوسطن يكتشف المعلم أن تلميذه يتعاطى بانتظام حبوب «ليبريوم» لعلاج الاكتئاب، وعندما يحاول أنكوس الفرار يكتشف المعلم أنه لا يريد سوى زيارة والده المحتجز في مصح للأمراض العقلية.عندما ينظر أنكوس إلى عيني والده الزائغتين يوقن أنه ينظر لمستقبله، أنه ورث لعنة والده وسيصير مثله، وعندها ستتخلى أمه عنه مثلما تخلت عن زوجها وأودعته في مصحة لتتزوج من جديد، لذلك يتحول اعتذار أمومي عابر في بداية الحكاية عن العطلة إلى نبوءة وتمهيد كارثي للخوف الذي حاصر الابن طوال حياته، أن تتخلى أمه عنه.
يقول عالم النفس الشهير غابور ماتي: «إن المرء الذي يترك لذاته دون عناق أو طمأنة من آخر، يقوم عقله بخلق آلية عناق ذاتية، يخلق حصوناً دفاعية تطمئنه، يعانقها كبديل عن عالم أشاح بوجهه عنه».
عبر العلاقة الأبوية المرتجلة بين بول وأنكوس تتحول حبكة بسيطة عن أفراد متروكين وعالقين في أكثر أوقات العام بهجة وجماعية، إلى أفراد يخرجون ببطء من حصونهم الدفاعية، أفراد يجربون العناق والتقبل لأول مرة من آخر.
عندما يدرك بول معاناة تلميذه لا يتحول لجورو أو معلم روحي على طريقة المعلم الشاعر في «Dead Poets Society»، لا يمتلك بول أدوات كثيرة للمواساة، يخبر تلميذه أن كل ما قام بتدريسه طوال حياته هو الحروب والمآسي الإغريقية، قوام المأساة الإغريقية هي بطل يحاول تجنب مصيره والتمرد عليه طوال الوقت لكن تقوده خطواته بمأساوية للمصير الذي خاف دوماً منه.
يخبر المعلم تلميذه أنه لو كان موقناً بشيء، فهو أن كل افتتانه بتاريخ أثينا، وأبطالها ومأساتها هو افتتان أدبي من رجل يخاف العالم والحميمية ولا يجيد تفكيك مركباته ومآسيه القديمة بأبطال الملاحم الذين مهما قاتلوا لا يتجنبون مصيرهم، هؤلاء يمنحونه عزاء أدبياً يعفيه من القتال لتغيير حياته ما دامت النهاية واحدة، يخبره أنه اعتنق أكذوبة أدبية وتأويلاً لا أكثر ليفر من الحياة.
في اللحظة التي يقدم فيها بول الحب لتلميذه بشكل أبوي، يدفع ثمن ذلك بتفكيك الأكذوبة التي احتمى بها طوال حياته، وفي تلك المرة لا تنبعث منه رائحة كريهة إنما تحرر وانعتاق مثالي.
«العالم على الحافة، الأغنياء لا يكترثون والفقراء وقود المدافع والنزاهة نكتة والثقة جملة المصرف».
- Holdovers
بينما يدور الفيلم في بداية السبعينيات، إلا أنه يقدم إطلالة على أمريكا الحالية كأن شيئاً لم يتغير أبداً، يتحول مفهوم المتروكين من مفهوم شديد الشخصانية في شخصية تخلت عن أحلامها وذاتها مثل المعلم بول، ومراهق تخلت عنه أمه وتركته لوحش الاكتئاب مثل أنكوس إلى مفهوم أكثر سعة عبر شخصية الطباخة السوداء ماري ليكتسب صبغة سياسية.
تمثل ماري المتروكين والساقطين من هامش الحلم الأمريكي أو السردية الجماعية للرخاء التي تقدم أجمل تجلياتها في لحظة الكريسماس وهي الاجتماع العائلي الدافئ للأبناء والأحفاد القادمين بنجاحاتهم من كل الولايات لمنزل الأسرة.
مشهد من فيلم The Holdovers
بينما نجح كيرتس ابن ماري في كسر قالب لون البشرة والفوز بمنحة في مدرسة بارتون العريقة، إلا أن أمه لم تنجح أبداً في توفير المال الكافي للجامعة، في العرف التعليمي لا يذهب أبناء مدرسة بارتون للحرب في فيتنام أو كوريا إنما يلتحقون بالجامعات مثل ييل. ولكن كيرتس وحده من المدرسة يذهب للحرب لأنه لا يمتلك مثل أقرانه البيض أموال الجامعة.
يتحول موت كيرتس من مأساة شخصية لأم في حداد إلى مأساة ذات بعد جمعي تمثل كل المتروكين من السردية الأمريكية والعالقين في سجن لون البشرة أو الفقر الطبقي.
تشاهد ماري برامج الأزواج البيض وهي تدرك أنها تعكس عالماً لا تنتمي له، تتحدث في انهيارها عن ذكاء طفلها وبراعته، وذوقه الموسيقي الذي لا يشبه أبداً انطباعات المجتمع الأبيض عن الشباب السود، تتحدث عن طفل تبنى كل مفردات الحلم الأمريكي لكنه في النهاية ظل طريداً من الفردوس، ومات غريباً برصاص أعداء لم يتخيلوا يوماً أنه عاش في بلده غريباً كذلك.
يلخص المعلم بول عصره بمقولة إن الأغنياء لا يكترثون، والفقراء وقود الحروب والثقة جملة هزلية تستخدمها المصارف الأمريكية وهي عبارة لا تقتصر على السبعينيات إنما تلخص تاريخ الولايات المتحدة حتى الآن الذي تتخلله الحروب الامبريالية والانسحاقات الطبقية للأفروأمريكان والأزمات المالية من مصارف تدعي الثقة.
في كادر صغير يرثي ألكسندر باين المتروكين من ذواتهم وأحبائهم وفي كادر أكثر سعة يرثي المتروكين من مجتمعاتهم بلا رحمة.
«لا شيء جديداً في التجربة الانسانية، كل جيل يعتقد أنه اخترع الفسق أو التمرد لكن كل شيء معروض أمامك في المتحف».
- Holdovers
يفر المخرج من الكليشيه الأخير لأفلام الكريسماس وهو النهاية السعيدة أو معجزة أعياد الميلاد.
يفطن بول إلى أن السيدة التي تقدم له الحلوى وتهتم به طوال الحكاية تواعد رجلاً آخر، أنها لم تره شريكاً محتملاً من الأساس، عندما تنتهي مغامرته مع تلميذه تقوم المدرسة بطرده بعد علمها بأنه سمح لتلميذه بزيارة والده في مصحة عقلية، لا يستغل بول لحظاته الأخيرة في الدفاع عن نفسه، ينسب فكرة الهروب وزيارة المصحة لنفسه ويسخر مرافعته الأخيرة للدفاع عن تلميذه الذي لا يستحق الذهاب لمدرسة حربية ترسله بعدها لفيتنام ولا يستحق الاحتجاز في مصحة تؤكد لعنة والده، إنما يستحق فعل الحب ولو كان في أبسط صيغه وهو تركه تجربته الإنسانية من دون إكراه أسرته أو مدرسته.
لا يخرج بول من مدرسته في مشهد ملحمي يثور فيه الطلاب لأجله، مثل مشهد اعتلاء الطلبة للطاولات في Dead Poets Society، ينثر الطلاب لدى عودتهم من العطلة الإشاعات حول سبب طرده، بينما تبقى حقيقة ما فعل مودعة بعناية لدى طالب واحد هو أنكوس.
تقوم ماري أخيراً بإنهاء حدادها بالتخلي عن متعلقات ابنها ومنحها لأختها التي تستعد لإنجاب طفل جديد للعالم.
ينزع المخرج بعناية سمة الملحمية عن كل مصائر أبطاله، لأن فيلماً يدور حول الترك والنبذ لا يحتاج إلى انتصار صاخب، فقط يحتاج أن نرى من عين محبة ولو كانت من شخص واحد، أن نفكك الحصون التي صنعناها بعناية خوفاً من رفض يؤكد لنا ما نخشاه دوماً، وهو أننا متروكون وحدنا في عالم لا يوجد به أحد يعبأ بنا، وهذا ما يجعلنا عالقين في حصوننا لتجنب تجربة تؤكد مخاوفنا.
مشهد من الفيلم
يكتفي ألكسندر باين بصداقة بسيطة في عطلة باردة خلقها موقف استثنائي لمعلم وتلميذ عالقين في صحبة بعضهما، عطلة أجبرت كليهما أن يفكك حصونه وأكاذيبه الدافئة ويطل على الآخر، وعندما أطل كلاهما ووجد الآخر يقبله كان هذا كافياً. بقدر ما تخلو النهاية من صخب الكريسماس وألوانه الزاهية إلا أنها تطمئننا أننا لسنا وحيدين، وأن ما بدا مرثية للعالقين والمتروكين والمنسيين بحزن في كادر زاهٍ ومبهج، لا يحتاج سوى عين تحررنا وترانا كما نحن، ولحظة نتعرى فيها بحقيقتنا دون خوف.
في زيارة المتحف يخبر المعلم تلميذه أنه لا شيء جديداً في التجربة الإنسانية، وأن كل قصة نظنها جديدة قيلت من قبل، وكل حدث نظنه ملحمياً أو استثنائياً توجد حكايته على حجر أو تمثال في متحف، هذا هو تعريف الكليشيه ببساطة، حكاية واحدة مبتذلة لفرط تكرارها، حكاية تشبه فيلماً يستعير كل الكليشيهات التي سبقته لكنه يراهن على أصالة ستجد طريقها لقلوب متلقيه، يخبر المعلم تلميذه أن الحياة كليشيه متوقع ومكرر، لكن لا بد أن نملك شجاعة لعيشه بدلاً من ادعاء الحكمة والتوقع لتجنبه.